وسائل الدفاع النفسية - الجزء الثاني
وسائل الدفاع النفسية
- تاريخ النشر: الإثنين، 05 أبريل 2021 آخر تحديث: الثلاثاء، 06 أبريل 2021
"قالوا للحرامي احلف، قال جالك الفرج" هل تعرفون القصة وراء هذا المثل الشعبي؟
في الواقع، ليست قصة هذا المثل هي محور حديثنا، لكنكم ستتعرفون عليها من كل بدٍّ في خضم هذا المقال.. والأهم من ذلك طبعًا، ما علاقة الإكثار من الحلف بوسائل الدفاع النفسية؟
كنا قد تطرقنا في مقال سابق إلى قضم الأظافر كوسيلة دفاع نفسية ونحن هنا لنتابع حديثنا.. فالإكثار من القَسَم (أو الحَلف) قد يكون أحد الحيل النفسية التي يتبعها الدماغ.. ولكن بداية دعونا نسأل:
ما هي وسائل الدفاع النفسية؟
إنها مجموعة من السلوكيات التي يتبعها دماغنا -أو بالأحرى- التي يعتمد عليها دماغنا كي يحافظ على تماسك شخصيتنا. عمِل دماغنا على تطوير هذه الآليات منذ الصغر واستمر بذلك مع مرور الزمن، بحيث كان يجرب آليات مختلفة مع مرور الزمن، فيضيف مرةً وسيلة جديدة، ويعدل أحيانًا ثانيةً، ويتخلى أحيانًا أخرى عن غيرها. ويضم التصنيف الأشمل لوسائل الدفاع النفسية أربع مجموعات كبيرة:
وسائل دفاع ناضجة: تعتبر هذه الدفاعات ناضجة على الرغم من أنها قد تكون تطورت عن دفاعات غير ناضجة في مراحل النمو أو التطور النفسي، كما أن استخدام هذه الآليات يعزز الإحساس بالسعادة والتحكم بالذات. لقد ساعدت هذه الآليات الإنسان على إدارة الصراعات النفسية بصورة جيدة منذ الأزل، كما يُعتَبر الأشخاص الذين يستخدمون هذه الآليات أناسًا أقوياء وفضلاء، إذ يمكنك عزيزي القارئ ملاحظة أنها تنتمي بمجملها إلى ما ندعوه بمكارم الأخلاق، فتعلمها ليس بالأمر السهل، والوصول إليها يتطلب من عقلنا جهدًا كبيرًا، إذ يشير استعمالها إلى النضج النفسي، ولهذا فقد دُعيت بالحيل العقلية الناضجة. الأمثلة عليها كثيرة، ومنها: الاحترام، والصبر، والتخطيط، والشجاعة، والتواضع، والامتنان، التسامح، والإيثار، والفكاهة...
وسائل دفاع غير ناضجة: وهي الوسائل التي طورها دماغنا في الصغر واستمر مداومًا على استخدامها -كما هي- حتى بعد أن كبرنا، وقد يعد تطبيق هذه الوسائل غير مقبول اجتماعيًا، وربما تعود بالضرر على صاحبها أو على الآخرين. من هذه الوسائل "النكوص" الذي يتمثل في البكاء أو قضم الأظافر مثلاً وقد تحدثنا عنه في مقالنا السابق.
وسائل دفاع مرَضية: هنا تصل محاولات الدماغ للدفاع عن استقراره إلى حد يصفه الطب النفسي بالمرضي. كالتحويل أو الهيستيريا، وهنا يظهر الصراع النفسي في صورة جسدية شديدة كالعمى أو الشلل أو الخرس.
وسائل دفاع عصابية: وهي طرق ذات فوائد قصيرة الأمد ولكن في ذات الوقت قد تؤدي لمشاكل على المدى الطويل. هل حصل يوما أن صرختِ في وجه أحد أطفالك، ثم شعرت بالذنب حين اكتشفت انه لم يكن مذنبًا حقًا؟ قد يكون صراخك أحد وسائل الدفاع النفسية التي اتبعها دماغك.
يدعى هذا بـ "الإزاحة" وهنا يتم تحويل الرغبات العدوانية إلى مكان أكثر قبولًا، بحيث تُفصل المشاعر عن مغزاها الحقيقي وتوجه إلى أفراد أقل خطورة، كأن تقوم الأم الغاضبة من زوجها أو الرجل الغاضب من رئيسه في العمل بالصراخ في أطفالهما.
وعلى صعيد آخر فإن تصرف الإكثار من الحلف لتغطية كذبة ما ينتمي أيضًا إلى هذه الفئة من وسائل الدفاع النفسية، ويندرج تحت ما يسمى بـ "التكوين العكسي". وهو يعد واحدًا من أكثر وسائل الدفاع النفسية إثارة للدهشة، وفيه يتم قلب الرغبات غير الواعية والتي يراها الشخص على أنها رغبات محرمة وغير مقبولة إلى عكسها. تكون هذه الحيلة النفسية غالبًا ردة فعل مبالغ فيها، فهو يعمل على قمع وكبت الدافع المثير للقلق، وبذلك يستريح صاحبه مؤقتًا من التوتر المرتبط به. وعلى سبيل المثال: الإسراف في القسم قد يكون دليلاً على الكذب، والإسراف في الزهد قد يخفي وراءه ميولًا جنسية أو عدوانية، والإسراف في اللطف قد يخفي رغبة في العنف أو التخلّي.
وقبل الختام تعالوا أخبركم كما وعدتكم عن قصة مَثَلنا في الأعلى؛ يُقال إنه كان هناك رجل محتال يتنقل بين التجار في الأسواق ويشجعهم على التبرع للفقراء والمساكين، غير أنه في الحقيقة كان يستولي على تلك العطايا دون أن يوصلها الى مستحقيها. وكان التجار -ورعًا منهم- يعطونه دون أن يسألوا إلى أين آلت أموالهم. ذهب هذا المحتال في أحد الأيام إلى تاجر كبير كان قد حلّ في المدينة مؤخرًا وطلب منه كالعادة أن يتبرع بشيء من ماله للفقراء والأيتام. رحب التاجر بالفكرة لكنه اشترط عليه أن يعود بعد أن يوزع العطايا فيحلف بأنه أعطاها لمستحقيها. فرح المحتال بذلك وتهلل لهذا الخبر وقبل بالشرط، وبعد أن أخذ صرة الدنانير من التاجر فكر المحتال كيف له أن يجد حلًا لمأزقه.. خطر له في البداية أن يحلف كاذبًا، أي أن يلجأ إلى حيلة التكوين العكسي – كما يحب علم النفس أن يصف ذلك. إلا أن المحتال شعر بالخوف من عِظم ذنبه حينها، لذا وبعد تفكير ذهب إلى زوجته وولده فأخذهما إلى بقعة خاوية من الصحراء، طلب إليهما بعد ذلك أن يخلعا ثيابهما، ثم أعطاهما صرة النقود. عاد في اليوم التالي إلى التاجر فحلف اليمين قائلًا: أقسم برب العزة أن أموالك ذهبت إلى عائلة في العراء لا يؤويها منزل وليس لديهم طعام ولا كساء.
ربما استطاع المحتال أن يحتال على التاجر بخبثه دون أن يلجأ إلى إحدى الحيل النفسية، لكن ما نعيشه في عصرنا الحالي يؤكد لنا أن دماغنا ما زال يحتال على الكثيرين، دافعًا إياهم للإدلاء بأيمانهم في كل مكان.. أجارنا الله منهم ومن حيلهم الدماغية...
دمتم تواقين للمعرفة
جراح وروائي